في رام الله عمل فني عالي الجماعية وزاخر بالفجيعة لوحات ناجي العلي ترقص على مسرح قصر الثقافة براكسيس يكشف أن الفن معيار حضارة الشعب ومرآة لواقعه ومهماز نقدي له

في رام الله عمل فني عالي الجماعية وزاخر بالفجيعة
لوحات ناجي العلي ترقص على مسرح قصر الثقافة
براكسيس يكشف أن الفن معيار حضارة الشعب ومرآة لواقعه ومهماز نقدي لهإنها الأمسية الختامية في مهرجان فلسطين الدولي الذي نظمه مركز الفن الشعبي، تبوأت فيه فرقة الفنون الشعبية بشطريها ساعة ونصف الساعة، مخلصة لكلمات غرامشي (على الثقافة أن تصبح ممارسة فلسفية) ولكلمات مهدي كامل (علينا التحرر من ربق الترسيمات والنماذج).
يكاد لا يصدق أن يتولى طاقم يعد على أصابع اليد الواحدة من موظفي المركز مثل هذه المناشطة المتشعبة التي امتدت أسبوع كامل، غير أن كلمة السر تكمن في فريق المتطوعين والمتطوعات من كادرات المجتمع الذين ضفروا جهد المركز ومديرته المثابرة إيمان حموري (كان هدفنا الاساس من المهرجان كسر الحصار الثقافي وبناء جسور التواصل) اضافت.

ففرقة فنية تقترب من الاحتراف تقوم على العمل التطوعي ومهرجان يغلب عليه العمل التطوعي... إن هذا لعمري لمأثرة.حينما يمتشق الفن الهم الوطني إنما يتكئ على مضمون النجاح، وما أن يقترن بمراس وخبر وتفاني وموهبة في التصميم، التدريب، الأداء، الرقص، الإضاءة... إنما يستجيب لسؤال الإبداع.
أتيحت لي فرصة مشاهدة إحدى "بروفات" عمل الفرقة الجديد (رسالة إلى....) المستوحى من لوحات ناجي العلي (تكريما له وقد حولنا ريشته على الورق إلى حياة راقصة على المسرح) خالد قطامش مدير الفرقة. ولاحظت بأم العين كيف يتخلق العمل، كيف يتعمل الفن، سيل من العقبات يجري تذليلها، تفاصيل كثيرة، تطلبات أكثر كلها تستدعي الجهد المثابر والذكاء المصابر... إضافة إلى التفاوتات التي يتعين تسويتها بين روح الجماعة ومزايا الأفراد، بين نظام الكلية ونظام الجزئية.. وتساءلت في نفسي: هل تنجح الفرقة وتكون جاهزة واستحقاق المهرجان على الأبواب؟

(الرفيق الأفضل يكون حيث المكان أكثر صعوبة) ما و.. وقد وجدت الفرقة نفسها في أتون أسابيع ضاغطة ومضغوطة ومتوترة... لكنها استجابت للتحدي! لقد تحشد الناس من كل الأجيال وغصت القاعة والتذاكر نفذت... مثل هذه الجماهيرية إنما حصدتها الفرقة في غمرة براكسيس جدلي. لقد صنعت سياقا و (رسالة إلى...) معلم نوعي لن يتجاوزه أي باحث أكاديمي في الفن الفلسطيني. لم تبلغ الفرقة الذروة، فليس ثمة ذروة في الإبداع، (فكل الأشياء المنتهية مآلها الزوال) هيجل، والذي يتوقف يموت، ففي الحركة الحياة وباستيلاد الجديد إنما نواكب المتغيرات... وحركة فرقة الفنون صاعدة و (رسالة إلى...) بصمة دامغة. تغلبت روح الفريق، روح الجماعة في مجتمع عرف تاريخه روح العشيرة والطائفة، أما الاختيار الافرادي الذي يبني جماعة معاصرة فهذا ما تصطف وراءه فرقة الفنون... الجماعة التي تفسح مجالا للفردية، كان ثمة مساحة لكل فرد وتألق الجميع. وكان لماهر شوامرة ونورا بكر حضورهما المميز تصميما ورقصاً و...

وبـ (رسالة إلى....) سارت الفرقة خطوة كبيرة للأمام تعزيزاً لعملها السابق (حيفا، بيروت...) ومسيرتها الفنية الغنية وذوت إلى غير رجعة التساؤلات عن (مراوحة الفرقة) فالفرقة صاعدة إلى أعلى، إنها رواية نجاح خليقة بالاحتضان والتثمين في محيط يطغي على ثقافته الضوابط والنواهي والأوصياء العجزة وتتضاءل فيها معايير النجاح والفشل، بينما المستقبل الواعد في نهاية الأمر شلال من المبادرات الناجحة.كانت العقدة، المقطع، التي تتحول فيه الغصة إلى دمعة، والمرارة إلى نهنهات، هي تحول البنادق إلى مكانس... يا للفجيعة التي تصور فجيعة أكبر منها، ويا للشهيد مبتور الساق الذي يخرج من قبره، ويا للمقاتل المتمرد الذي يحلم.... مارشات عسكرية، ذكريات ثورية، تضحيات، بطولات من لحم ودم، أناس خلص أثروا الوطن على أنفسهم.... ينتهي الأمر إلى تسابق على مغانم تافهة... فيما الشعب مقتلع ومستباح وكواشين "العودة" تصدأ في الدروج...

نصف ساعة بصوت النواح وجناحي غراب الحزن ترفرف على القاعة والألحان تبوح برائحة الموت، كاتم الصوت الغادر، برميل النفط القاتل، قهرية نظم ممنوع الوقوف، مأساة النزاع الداخلي... وكل محاولات الثائر الحالم ولوحة نحن وطموح اتحاد البندقة والثقافة... لم تخلصنا من الغصة والمرارة... إنها تصفعنا لكي نستيقظ... كان العرض بطعم الجنازة وبقي مفتوحا للإضافة..."إنه تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة" غرامشي... فالمعطيات تشي بالتشاؤم، أما التفاؤل فهو مستقبلي تصنعه الإرادة الجمعية الواعية. (كانت مشكلتنا مع الفيتناميين أنهم يثقون بالمستقبل) كيسنجر. وطلت "براعم الفنون" البراعم ليس جيل الغد فقط، بل ولوحاتها باعثة على التفاؤل والفرح أيضاً. مأثرة حقا اجتراح ثنائية متناقضة، فجيعة (رسالة إلى...) وبهجة (رقصة شَمْسِ) إنها التناقضية والتكاملية في آن (وحدة ضدية) بلغة الفلسفة. حداثة (رسالة إلى... ) وفلكلورية (رقصة شَمِسْ) نموذج جدلي خلاق (إننا نضع رقصا فلسطينيا فلكلوريا معاصراً) ماهر شوامرة.

البراعم وما أدراك ما البراعم، سرب من الحمام الواثق من نفسه، من الجمال، من الموسيقى، من الرشاقة وزخات المطر.. أعادت لنا توازننا وأنعشت روحنا. أما الصوت الذي جاء من العمق، فلسطيني حتى النخاع، تراثي، معاصر، لا يهم أنه فلسطين التراث والمعاصرة، شجرة الزيتون كانت الرمز والإشارة... إنه صوت محمد يعقوب.(لأنني أرى ما لا يُرى... وأسمع خطباء لا يلوكون سوى تردٍ). فأنا حنظلة... حنظلة ناجي العلي... الشاهد والشهيد الذي تشرق راهينته دون تقادم.

بقلم أحمد قطامش
جريدة القدس
تموز 2007